لو حُقّ لرجل أجنبي أن يزور بعض مساجد قطاع غزة، لما صدّق أنها فعلاً على أرض القطاع المحاصر منذ أحد عشر عاماً، ولما صدّق كلام وسائل الإعلام، أن آلاف المنازل مازالت مدمرة منذ انتهاء عدوان 2014 الماضي، كما لن يصدق أن أحد المساجد التي تفوق تكلفته المليون دولار يقع بالقرب من أفقر مخيم في القطاع.
وعلى الرغم من أن قطاع غزة يعاني ويلات الحصار على مدار سنوات طويلة، وارتفاع لنسبة البطالة بين الشباب، وبقاء آلاف المنازل المدمرة على حالها منذ سنوات، إلا أن بناء المساجد ذات التصميمات الفخمة والفارهة قد انتشرت مؤخراً، رغم أن الأصل في الإسلام البساطة.
ولعل المار في شارع الرشيد الممتد على طول البحر غربي مدينة غزة، سرعان ما يلفت انتباهه بناء مسجد الخالدي بالقرب من منطقة السودانية، وليس ببعيد عنهم إلى الشرق مسجد الإصلاح بحي الشجاعية، والتي تصل تكلفة الواحد منها لأكثر من ثلاثة ملايين دولار أمريكي.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه المسند إلى ابْنِ عَبَّاسٍ: “مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ”، أي بطلائها، فإن مساجدنا اليوم يتفاخر القائمون عليها بزخرفتها وتكلفتها الباهظة حتى بات الشعب الفلسطيني ينتظر أن تقام الساعة تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ”.
وأثار رصد مبالغ طائلة لبناء المساجد بأحدث الطرز الهندسية والمعمارية، حفيظة الغزيّين الذين يعيشون في بقعة من الأرض تعاني من الفقر والدمار.
ويقول المواطن حازم عوض، إن الأولى من بناء تلك المساجد بهذه التكلفة العالية أن تبنى بشكل طبيعي وأن يصرف الباقي على الفقراء والمساكين، فلقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع.
ويضيف “هذه بيوت الله لنتعبد بها ونتقرب إليه، وليس للتفاخر بما فيها من زخرفات وتكليفات ما أمر الله لها، فالأصل في بيوت الله البساطة، فلم يكن بناء المساجد يتطلب سوى بعضٍ من لبِنات طين وسعف نخيل”.
أما الشاب خالد عمر، فيرى أن بناء المساجد هذه الأيام أصبحت للتباهي بين بعضنا البعض، حيث إن مسجد ( أ) أفضل وأضخم من مسجد (ب ) وهكذا، مبيناً أن غزة بحاجة إلى إطعام الفقراء وبناء المستشفيات وبناء البيوت المدمرة.
ويضيف عمر وهو خريج من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية “كما تعلمنا في الجامعة، فإن الأصل في بناء المساجد هو البساطة، وعدم البذخ والإسراف، غير أننا بتنا نرى في واقعنا اليوم ارتفاع تكلفة المساجد والتباهي في بنائها وفي المقابل كثرة الفقراء”.
ووفقا لإحصائيّة سابقة لوزارة الأوقاف بغزة، فإن عدد المساجد في قطاع غزّة يبلغ 1078 مسجداً، تشرف الوزارة على 921 واحداً، ويتبع 157 مسجداً آخر إلى تنظيمات سياسيّة أو إلى دار الكتاب والسنّة، إذ تكتفي تلك الجهات بأخذ تراخيص بناء مساجدها من البلدية، دون الرجوع إلى وزارة الأوقاف، لذا ليس للوزارة أي سلطة عليها.
ولقد دمّر الاحتلال الإسرائيلي على مدار الحروب الثلاث 110 مساجد تدميراً كليّاً و534 مسجداً تدميراً جزئيّاً.
وفيما يتعلق برأي الشرع في ذلك، فقد أكد أستاذ العلوم الشرعية بالجامعة الإسلامية، د. ماهر السوسي، أن المساجد دور للعبادة تستمد قدسيتها من قدسية الله سبحانه وتعالى، مبيناً أن البذخ والتبذير في بناء المساجد والإسراف في زخرفتها حكمه يتردد ما بين مكروه ومحرم.
وقال السوسي : “إذا كان بذخ بناء المسجد بقصد البذخ والإسراف بحد ذاته، فإن ذلك محرماً، لأن الإسراف بشكل عام محرم، وإن الله لا يحب المبذرين، لكن إذا كان الأمر يقصد من خلاله التباهي بين المساجد، فهذا كما ورد عند العلماء مكروه، لأن القصد من المسجد هو مجرد عبادة الله سبحانه، ولم يكن القصد من المسجد هو هذه البهرجة والزخارف وهذه كلها أمور لا علاقة لها بالعبادة”.
وأشار إلى أنه في بعض الأحيان قد تصرف هذه البهرجة والزخرفة الناس عن العبادة، لأنها تصرف المصلين عن الخشوع في الصلاة، موضحاً أنه بشكل عام فإن التسابق في التباهي في بناء المساجد بالحكم العام مكروه، بما يعني “أن تركه أولى من فعله”.
وأضاف السوسي “لا نستطيع بحال من الأحوال أن ننكر دور المسجد في أي مجتمع من المجتمعات، لكن بالمقابل لا يؤمن أحدكم إذا بات شبعاناً وجاره جائع وهو يعلم به، وبالتالي فإن الأمور بحاجة إلى موازنة، بمعنى إذا أردت بناء مسجد في حي مملوء بالمساجد فإن الأولى هو إطعام الفقراء أو جعل المال في مستشفى أو مدرسة، وهو في النهاية صدقة جارية، لكن إذا الحي خال من المساجد أو الناس بحاجة إلى مسجد فإن الأولى المسجد”.
من جهته، يؤكد مدير العلاقات العامة في وزارة الأوقاف بغزة رمزي النواجحة، أن هناك بعض المعايير في عملية بناء المساجد، حيث يتم تشكيل لجنة خاصة بإعادة إعمار المساجد سواء التي دمرت في الحروب الثلاثة الماضية أو التي يتم بناؤها حديثاً، بإشراف الوزارة، حيث يتم إعداد المخططات الهندسية وعرضها على الدائرة الهندسية بالوزارة.
ويقول النواجحة “هناك أهل خير يتبرعون بأراضٍ لبناء المساجد، ولنعتبر مثلاً أن هناك منطقة فيها 3 مساجد، ويريد صاحب أرض قريبة أن يتبرع فيها لبناء مسجد، فنحن لا نستطيع أن نحرمه من الأجر، ولا نستطيع أن نفرض عليه ماذا يفعل بالأرض، فبعض الممولين عرضنا عليهم بناء مساجد في أماكن أخرى، إلا أنهم رفضوا، وبالتالي لا نستطيع رفض التمويل لبناء المسجد”.
وأشار إلى أن عدد المساجد التي دمرت خلال الثلاثة حروب الماضية بشكل كلي تبلغ 110 مساجد وبشكل جزئي تبلغ 534 مسجداً، مبيناً أنه مازال حتى اللحظة أكثر من 50 مسجداً مدمراً بشكل كلي، و74 مسجداً مدمراً بشكل جزئي.
