غزّة.. هنا يمكن أن تَصلُح الأنفاس لمادّةٍ صحفية، فلا النفس عادي، ولا الحياة طبيعية! غزة التي يرتبط اسمها في ذهن من يسمعه بصور القصف الإسرائيلي والدماء النازفة، تستحقُّ من أهلها سؤالًا جديرًا بالتمعن كهذا السؤال: “كل هؤلاء الناس، وغزة ما فيها مصاري؟!”.
تقفُ في حيرةٍ من أمرك حينما يتراجع السائل وينضم للحشد، يقف قرب البسطة ويسأل البائع: “بكم هذا الفانوس؟ وبكم تلك الزينة؟”، وحين يجيبه بأن أسعارها تتراوح ما بين ٥ شواكل (أكثر من دولار)، و٢٠ شيكلاً (٥ دولارات تقريبًا)، يردّ صديقه أحمد رضوان بنبرة المستَفَز: “والله يا بلاش!” كنايةً عن ارتفاع الثمن.
في حوارٍ سريعٍ مع الشّاب، حول إذا ما كان هناك مالٌ في غزة فعلًا، لتحقيق بعض من “الرفاهية” بشراء زينة رمضان مثلًا، يضحك ساخرًا من الواقع المتردي ويجيب: “مصاري كتير، بس فش نفس تصرف”، مضيفًا: “جديًا، غزّة تعيش بأقل القليل، الناس تحب أن تسعد نفسها، حتى وإن كان أهلها لا يملكون فلسًا واحدًا، ربّما يصنعون زينة من بعض الملابس البالية وخيطان الصوف، المهم أن يُفرحوا أطفالهم”.
في الشارع الحيوي ذاته، ذلك الذي يعجّ بالناس، وأمام البسطات التي يقف خلفها باعة بسطاء، كانت امرأة ترافقها طفلة، قدّرنا عمرها بخمسة أعوام، تقفان أمام بسطة لبيع ملابس للأطفال.
تساوم الأم البائع على فستانٍ للصغيرة يزيد ثمنه عن ١٥ شيكلًا (٤ دولارات)، وهي تريده بـ ١٣ شيكلًا (٣ دولارات ونصف).. استمرت بذلك حتى قبِل.
لم تكن القصّة هنا، كانت في “مانيكان” ارتدت فستان، شدّت قلب الطفلة ذاتها فلم ترضَ أن تترك البسطة، وأصرّت على أمها أنَّ هذه عروسٌ تشبه الباربي، وتريد أن تقتنيها، البائعُ استثمر الموقف، فعرَضَ على الأم أن تشتريها بـ ٤٠ شيكلاً (١٠ دولارات)، فما كان منها إلا أن قبلت.
تقول الأم لـ “نوى”: “منذ عامين، وابنتي تطلب اقتناء عروس “الباربي”، في كلّ مرة نخرج إلى السوق، ونسأل عن أسعارها، فنفاجأ باقترابها من الـ ١٠٠ شيكل (٢٥ دولارًا)، وهنا من المستحيل شراء مثلها، لأن ثمنها مرتفعٌ جدًا بالنسبة إلى ربّ أسرة يعمل موظفًا في حكومة غزّة –كزوجي- ويعيش على “السُلَف”.
تتأمّل الطفلة عروسها الجديدة، تلعب بعينيها وتحاول إغلاقهما، تبحث عن زرٍ يمكنه أن يجعلها تنطق دون جدوى، تحاول فتح فمها وتسأل أمها “ليش شعرها مش أشقر يا ماما؟” لا تنتظر إجابة أمها، وتكمل: “خلص ماما أنا سميتها سوسو”.
تكمل الأم: “من يرانا نشتري العرائس يوهم بنا، حرفيًا بثمنها ألغيت شراء بعض الضروريات للمنزل، كل هذا من أجل إسعاد أسيل، وضع البلد مش مضمون، بلاش تقوم الحرب ونموت والبنت نفسها بالعروس!”.
يقول العم مصباح، كما طلب أن نناديه: “غزّة فيها كل إشي، صح محاصرين من ١٤ سنة، بس إحنا صنعنا كل ما يلزمنا من العدم”.
يعمل العم مصباح في بيع المنظفات، وبعض الأدوات المنزلية على عربة متنقّلة، يتجمّع الأطفال حوله عند كلّ صباح ليشتروا لأمهاتهم اللاتي ينتظرن مروره يوميًا كميات منها، فهو “أمين” يبيع لتر الكلور الواحد بشيكل فقط، ولتر سائل تنظيف الصحون بـ 2 شيكل.
يضيف: “عملتُ في البناء، وفي بيع ملابس الأطفال، وعاملًا كذلك في أحد مصانع البسكويت، إلى أن تعرّفت على طرق صناعة بعض أنواع المنظفات في المنزل”، متابعًا: “رغم دخلي البسيط إلا أنني لا أفوّت أي مناسبة اجتماعية أو دينية، دون أن أحتفل بها، خصوصًا شهر رمضان، فأشتري بعض التمر والقطين (التين المجفف)، وقمر الدين، إلى جانب بعض الزينة مثل البالونات والحبال المضيئة، وفانوس يبهج مي، طفلتي الصغرى”.
تعدّدت أعماله خلال فترة حياته التي بلغت ٦٠ عامًا، ليس “دلالًا” منه على نوع العمل بحسب تعبيره، بل بسبب ظروف غزّة التي تتغيّر في ساعة واحدة، “يمكن أن تندلع فيها الحرب ويقصف مكان عمله، أو يمكن أن يعتذر منه صاحب العمل لأنه أراد تقليص عدد العمّال بسبب تدهور الاقتصاد الفلسطيني، بسبب الحصار المستمر منذ عقد ونيف”.
ويبلغ متوسّط دخل العم مصباح شهريًا حوالي ٦٠٠ شيكل (أقل من ٢٠٠ دولار)، يصرف منها على أسرته المكوّنة من ٩ أفراد، إلى جانب راتب الشؤون الذي يتلقاه، ويقدّر بـألف شيكل (٢٥٠ دولارًا تقريبًا)، تصله كلّ ثلاثة أشهر.
هذه غزّة وهذه قصّتها، المدينة التي لا تشبه أحدًا سوى أبناءها، تعجّ بالفرح على هيئة زينة رمضانية وفانوس وعروس، لكنها تغرق بالعدم.
عدم الأمان تحديدًا، هذا الذي تمارسه “إسرائيل” ضدّها بجدارةٍ وامتياز، تظهر نتائجه بين الحيطان التي تستر أصحابها من الفقر، والحصار، والبطالة، وبتر الأطراف، وهدم الحيطان على رؤوس ساكنيها في غالب الأوقات.

