يوسف كحيل
قرأت هذه القصة الجميلة قبل ثلاثة أعوام بالصدفة, ولم أنسَ تفاصيلها البريئة ولن أنسى نهايتها الغير بريئة والغير متوقعة, وأتذكرها بسرعة عندما أمر بموقف مماثل.
أما القصة فهي تتحدث عن زوجة جنرال وتعمل طبيبة بنوع خاص من الطب, وتعالج المرضى الفقراء من الفلاحين في بيتها وكانت تستقبلهم في غرفة مكتبها بعد أن تأمرهم بخلع أحذيتهم النتنة بالفناء وكانوا ينتظرون بالردهة. وبينما استقبلت الطبيبة عشرة مرضى وتنادي على الحادي عشر. يفتح الباب فجأة شخص أخر بدلا من الشخص الذي نادته الطبيبة وهو عجوز ضئيل الجسم وتحت إبطيه قبعة النبلاء ويضع العصا في الركن ويركع على إحدى ركبتيه في صمت أمام الطبيبة فتفزع زوجة الجنرال ويتضرج وجهها بالحمرة وقد استغربت ما يحدث أمامها فتسأل المريض عما يفعله وتأمره بالنهوض, فيقول لها المريض مقبلا يديها:”لن انهض ما دمت حياً! فليراني كل الناس راكعاً أمامك, يا ملاكنا الحارس, يا راعية جنسنا البشري الساحرة الخيرة التي وهبتني الحياة وأنارت ظلمات يأسي, هذه الساحرة الخيرة مستعد لأن أقف أمامها لا على ركبتي بل وفي النار أيضا, يا شافية جراحنا الرائعة!, يا أم اليتامى والأرامل! لقد شُفيت! بُعثت حيا أيتها الساحرة!”
فيتضرج وجه الطبيبة بالسرور وتأمره بالجلوس وتقول له ولكنك في الثلاثاء الماضية كنت مريضا جدا, فيجلس العجوز ويؤكد لها كم كان مريضا في الثلاثاء الماضي وأن مجرد تذكر الألم هو شيء مرعب ويخبرها أن الروماتيزم كان ممسكا بأعضائه منذ ثمانية أعوام وأنه لم يذق طعم الراحة وهو يتعذب وقد تردد على الأطباء وقد سافر إلى البروفيسرات ولم يترك شيئا إلا جربه وأنه أضاع ثروته على العلاج وأن الأطباء لم يجلبوا له إلا الضرر فهم من حبس الداء بجسمه وعلومهم غير قادرة على إخراجه ويصفهم باللصوص الذين يحبون الإستيلاء على نقودك أما الآلام الإنسان فلا تحرك فيهم شيئا. ثم يقول لها:” لولاك يا ملاكنا, لكنت الاّن في القبر! عدتُ من عندك الثلاثاء الماضي ونظرت إلى الحبات التي أعطيتنيها يومها وقلت: أي فائدة منها؟ هل هذه الحبيبات قادرة على أن تشفيني من مرضي الهائل القديم”
ثم يخبر الطبيبة كيف أنه لما تناول أول حبة حتى ظهر الأثر فورا كأنه لم يكن مريض وكأنما يد مسحت الداء عنه وحدقت فيه زوجته بعينين جاحظتين وهي غير مصدقة أنه هو هو زوجها المريض.
ثم يمسح هذا العجوز عينيه براحة يديه ويبدو أنه على وشك الركوع مرة أخرى على ركبتيه لكن الطبيبة تستوقفه وتجلسه ووجها متضرج بالحمرة وتقول له لا تشكرني ما أنا إلا أداة طيعة يا الهي روماتيزم قديم من ثماني سنوات ويزول بحبة واحدة!”
ثم يعود ويخبرها أنه أخذ حبة واحدة في الغداء وفورا زال والثانية في المساء والثالثة في اليوم التالي ومن ساعتها لم يشعر بشيء ولا حتى وخزة وبالرغم من أنه كان مستعدا لملاقاة الموت لدرجة أنه كتب لابنه في موسكو أن يأتي, لكنه اليوم يشعر وكأنه يسير بالجنة وأنه قادر على مطاردة أرنب لكنه الثلاثاء الماضي كان يعرج. لكنه شيئا واحدا هو الذي يؤرقه فعلا وهو قلة الموارد ويخبر الطبيبة أنه لصحيح أنه صحيح الجسم ولكن ما فائدة الصحة إذا كان المرء لا يجد ما يعيش به, وأن العوز أرهقه أكثر من المرض ويعطيها بعض الأمثلة على قلة ذات اليد وكيف أن موسم الزراعة أتى لكنه لا يجد مالا ليشتري بها بذور كي يزرع أرضه وتقول له الطبيبة أنها ستعطيه بذورا وتطلب إليه أن يجلس.
ويقول لها:” كيف خلق الرب كل هذه الطيبة؟ فلتفرحي يا سيدتي وأنت تنظرين لأعمالك الطيبة أما نحن المساكين فليس لدينا ما يفرحنا, نحن قوم صغار تافهون لا نفع منا, نحن نبلاء بالإسم فقط نحن نسكن في بيوت حجرية لكنها مثقوبة وتتسرب منها الماء لأن ليس ما لدينا مال لنشتري بت خشب” وتعطيه الطبيبة مالا وبقرة وخطاب توصية لابنته ويتأثر جدا بكرم الطبيبة فيشهق بالبكاء ويدس يده في جيبه ليخرج منديلا يمسح بت دموعه وإذا بورقة صغيرة حمراء تسقط مع المنديل بدون صوت على الأرض.
ويخبرها أنه لن ينسى أبد الدهر ما قدمته له وسيخبر أولاده وأحفاده بهذه الإنسانة التي أنقذته من القبر و تودع الطبيبة مريضها وتغرق عينيها بالدموع ثم يقع بصرها على الورقة التي سقطت من جيب المريض فترفع الورقة وتفتحها وتجد تلك الثلات حبات ذاتها التي أعطتها له الثلاثاء الماضي!!
وتقول مستغربة:” إنها هي نفسها.. حتى الورقة هي بعينها..إنه لم يفضها حتى, إذن ماذا تناول؟ لا يمكن أن يكون قد خدعني”
ولأول مرة خلال عشر سنوات يتسرب الشك لزوجة الجنرال وتستدعي بقية المرضى وتلاحظ للمرة الأولى ما كان قد خافيا عنها, فجميعهم يمجدونها بالبداية على شفائهم المدهش ويبدون إعجابهم بحصافتها الطبية ويسبون الأطباء العاديين وبعد ذلك عندما يتضرج وجهها بالحمرة يبدأون بسرد مطالبهم فهذا يريد قطعة أرض يزرعها والاخر يريد حطب ..إلخ
ثم تكتشف الطبيبة حقيقة كريهة وثقيلة وهي :ما أخبث الإنسان!!
انتهت هذه القصة الجميلة للكاتب العظيم أنطون تشيكوف لكن مغزاها العميق لم ينته وتتكرر أحداثها وشخصياتها في كل مكان مع تغير أساليب النصب والإحتيال.
ومن المؤكد أنك قابلت في حياتك هكذا أشخاص يكذبون ويحتالون ويستغلون طيبة الأخرين. إنهم ببساطة لا يهتمون لا لمشاعر الناس ولا أحاسيسهم ولا حتى صدمتهم عندما يجرحون من خداعهم المتواصل كما صدمت الطبيبة في القصة وما يهمهم فقط هو مصالحهم الخاصة ومنفعتهم وسعادتهم حتى لو كانت مبنية على تعاسة الأخرين.
بالمناسبة انهم يستخدمون مهارات وطرق لا تصدق في الاحتيال على الاخرين, في المرة القادمة عندما تقابل مثل هؤلاء الأشخلص لا تنس أن تمسك أياديهم وتذهب بهم لأقرب مسرح.

