حــســـــن زايـــــــــد .. يــكــتـــب :
بـــوتــــين ولــعــبــة الــســـيرك الــســــياســي
هناك رئيس ، وهناك قائد . في كل عمل قد تجد الرئيس ، وقد تجد القائد . وبون شاسع بين الرئيس والقائد . وعلي مستوي الدول هناك العديد من الرؤساء ، والقليل من القادة . وبعيداً عن التوصيف العلمي للفروق ما بين الرئيس والقائد ، فإن لي موقفاً انطباعياً من كليهما . فالرئيس من وجهة نظري ، مجرد موظف يقوم بتسيير الأعمال ، وفقاً لبطاقة وصف وظيفي ، معدة له سلفاً ، لا يزيد عليها ، ولا ينقص منها ، حتي يتم مدة رئاسته بخير ، لا له ولا عليه . وقد لا توجد فروقاً فردية فارقة ، بين رئيس ورئيس ، إلا في أضيق الحدود . قد تتمثل في سرعة الإنجاز أو بطئه ، أوتقليل الفاقد و زيادته . ويكون الآداء بروتوكولياً يغلب عليه الطابع الشكلي . وينطبع الآداء الحكومي كله بذات الطابع ، آداء باهت حائل اللون ، له من صفات الماء ثلاث : عديم اللون ، عديم الطعم ، عديم الرائحة ، وهي صفات محمودة في الماء ، وفي البشر مذمومة .
أما القائد ، فهو ذلك الرجل ، الذي يمتلك من الصفات الشخصية ، ما يؤهله للقيادة ، ويمتلك من الكاريزما ما يدفع الآخرين للإنقياد له . وعلي المستوي السياسي نجد القائد هو لاعب السيرك الماهر ، الذي يجيد اللعب علي كل الحبال ، ويجيد كل الألعاب ، وفي كل الظروف والأوضاع ، وبنفس الكفاء والفاعلية . وذلك كله لا يأتي مصادفة ، ولا يتأتي بالفطرة وحدها ، وإنما يتطلب درساً وتعلماً وتدريباً وتجريباً وتوظيفاً وتطبيقاً ،الأمر الذي يدفع حتماً ، إلي الإنقياد له طوعاً وحباً أو قناعة ومصلحة . أي أن القائد هو من تنطبق عليه مواصفات لاعب السيرك ، ولكن علي المستوي السياسي .
والرئيس الروسي بوتين ، من هذا النمط من الرجال . لذا فإنه يجيد انتهاز الفرص التي تتاح أمامه ، فضلاً عن خلقها خلقاً ، إذا اقتضت مصلحة بلاده ذلك . فالرجل وريث إمبراطوية كانت تمثل القطب المقابل ، للقطب الأمريكاني ، وقد تهاوت من الداخل ، بفعل عوامل تحلل ذاتية داخلية ، وعوامل خارجية مصطنعة علي أيدي أجهزة استخباراتية عتيدة في العبث في أحشاء الدول وأدمغتها . واستلم السلطة من رئيس مخمورـ الرئيس يلتسين ـ كان يسير بالإتحاد الروسي إلي الهاوية . وأجري مجموعة من الإصلاحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية العاجلة ، التي أبقت علي الإتحاد الروسي واقفاً علي قدمين ثابتتين في مواجهة التحديات .
وما زال الرجل يصارع الغرب والأمريكان بغية الوصول إلي منطقة المياه الدافئة ، بعد أن فقد الإتحاد السوفيتي نفوذه السياسي والإقٌتصادي فيها ، ولم يكن يتبقي له منها سوي سورية . ولذلك وقف الرجل موقفاً مناوئاً لما أطلق عليه ـ مجازاً ـ ثورات الربيع العربي ، لا لأن بلاده قد عانت من هذه الثورات الملونة ، التي أفضت إلي تفكيكها ، وشرذمتها ، وإنما لأن إتيان هذه الثورات أكلها ، سيقذف به خارج المنطقة ، والأمر لا يتعلق فقط بالنفوذ السياسي ، وإنما يمتد إلي الجانب الإقتصادي والعسكري . ومن هنا لم يكن مستغرباً التدخل العسكري الخشن في الملف السوري ، وتأييده للمواقف المصرية في الملف السوري والليبي واللبناني واليمني والفلسطيني . بخلاف تطوير العلاقة التاريخية بين مصر ورسيا ، من خلال الإتفاقيات الإقتصادية والعسكرية ، وتنسيق المواقف السياسية بين البلدين .
فالرجل يعلم أن إقتصاد بلاده يعاني من الكساد ، ويعاني من الإنكماش ، وانخفاض الإيرادات عقب تدهور اسعار النفط ، وانهيار قيمة الروبل في مواجهة الدولار الأمريكي ، واليورو الأوروبي ، وارتفاع معدلات التضخم إلي مستويات قياسية . كما أنه يدرك أن روسيا تعاني من العقوبات الأورو / أمريكية ، علي خلفية أزمة جزيرة القرم ، ودعم الإنفصاليين في شرق أوكرانيا ، ومن ضمن العقوبات وقف التعاملات مع الشركات الروسية العاملة في مجال الطاقة ، والقطاع المصرفي . وتعتمد روسيا علي صادرات النفط والغاز ، والسلع الأساسية ، والمواد الخام ، في الحصول علي إيراداتها ، بعد تراجع القطاع التصنيعي .
والرجل يسعي جاهداً إلي التخلص من وقع العقوبات ، ومحاولات فرض الحصار ، وإنعاش الإقتصاد . وهو في سبيله إلي ذلك ، يركزعلي الدول النامية ، ومن بينها مصر . حيث يستغل الحماقات والأخطاء التي تقع فيها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في علاقاتها بمصر بعد ثورة 30 يونيه ، كي ينفذ منها إلي بناء جسور من العلاقات المتينة معها ، مستغلاً في ذلك الرغبة المصرية الجارفة في تنويع علاقاتها مع مختلف الدول ، والإستعصاء علي محاولات الإستقطاب والتبعية ، والإرتماء في الأحضان فيما بعد ثورة يوليه 1952م ، حتي تتخلص من مشاكل الإبتزاز ، ولي الذراع ، ومحاولات التأثير علي استقلالية القرار الوطني ، والنيل من السيادة المصرية .
ولو أجهدنا أنفسنا قليلاً ، في محاولة للمقارنة بين بوتين والسيسي ، سنجد أن كليهما لاعباً ماهراً ، علي مسرح السيرك السياسي الدولي ، يتمتع بكل مقومات القيادة الرشيدة ، وليس مجرد رئيس . والرئيس السيسي هناك من يحبه ، ومن لا يحبه فهو يحترمه ، لأنه قائد جدير بالإحترام . وليس ذلك من قبيل الدعاية الإنتخابية ، ولكن استمراره لفترة رئاسية ثانية ضرورة وجود ، لاستكمال ما بدأه من مشروعات .


